الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} أَعَادَ نِدَاءَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَيَا قَوْمِ} اسْتِعْطَافًا وَتَكْرِيرًا لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ لِخَيْرِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَصَرَّحَ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مَالًا فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِيهِ عِنْدَهُمْ لِمَكَانَةِ حُبِّ الْمَالِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِزَازِهِمْ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْمَالُ: مَا يُمْلَكُ وَيُقْتَنَى مِنْ نَقْدٍ وَمَاشِيَةٍ وَغَيْرِهَا، وَعَبَّرَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِالْأَجْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هُنَا {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ} أَيْ مَا أَجْرِي عَلَى تَبْلِيغِهِ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي بِهِ، وَكُلُّ رَسُولٍ بَعْدَهُ أُمِرَ أَنْ يُبَلِّغَ قَوْمَهُ هَذَا، كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَحْكِيًّا عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، وَتَكَرَّرَ مِثْلُهُ بِأَمْرِهِ تَعَالَى عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (42: 23) فَهُوَ- أَيِ الِاسْتِثْنَاءُ- مُنْفَصِلٌ مَعْنَاهُ، لَكِنْ أَسْأَلُكُمْ مَوَدَّةَ أُولِي الْقُرْبَى لَكُمْ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ الَّتِي تُبَالِغُونَ فِيهَا وَتُقَاتِلُونَ لِأَجْلِهَا. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَفْعٌ لِشُبْهَةٍ أُخْرَى عَلَى نُبُوَّةِ نُوحٍ كَغَيْرِهِ لابد أَنْ تَكُونَ حَاكَتْ فِي صُدُورِ قَوْمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ تَكَلَّمَ بِهَا {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا بِالَّذِي يَقَعُ مِنِّي طَرْدُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قُرْبِي وَجِوَارِي لِاحْتِقَارِكُمْ لَهُمْ، وَوَصْفِكُمْ إِيَّاهُمْ بِالْأَرَاذِلِ جَهْلًا مِنْكُمْ، فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ فِي كَلَامِهِمْ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ، وَقَدْ يَكُونُونَ صَرَّحُوا بِذِكْرِ هَذَا اللَّازِمِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ أَكَابِرِ مُجْرِمِي الْكُفَّارِ مِنْ جَمِيعِ أَقْوَامِ الْمُرْسَلِينَ، بَيَّنَهَا هُنَا وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْمِ نُوحٍ أَوَّلِهِمْ، وَتَكَرَّرَ مَعْنَاهَا فِي قَوْمِ خَاتَمِهِمْ، وَمِنْهُ فِي ذِكْرِ الطَّرْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (6: 52) الآية.وَفِي مَعْنَاهَا قِصَّةُ الْأَعْمَى فِي سُورَتِهِ {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} هَذَا تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِنَفْيِ الطَّرْدِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُلَاقُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ يَتَوَلَّى حِسَابَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، إِنْ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ وَبِهِمْ {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} أَيْ تُسَفِّهُونَ عَلَيْهِمْ، مِنَ الْجَهَالَةِ الْمُضَادَّةِ لِلْعَقْلِ وَالْحِلْمِ، أَوْ تَجْهَلُونَ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ، وَعَمَلِ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، وَتَظُنُّونَ أَنَّ الِامْتِيَازَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَالِ الْمُطْغِي، وَالْجَاهِ بِالْبَاطِلِ الْمُرْدِي، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (26: 111- 115) وَفِي مَعْنَى مَا هُنَا مِنْ أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى اللهِ تَتِمَّةُ الْآيَةِ (6: 52) الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} كَرَّرَ هَذَا النِّدَاءَ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ آنِفًا، وَالِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ بِأَنْ يَمْنَعَ عَنِّي مَا أَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِقَابِهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ لِي وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّايَ فِيمَا بَلَّغْتُهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي الْعِقَابَ الشَّدِيدَ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى مَهْمَا تَكُنْ صِفَةُ مَنِ اقْتَرَفَهُ، كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (6: 52) {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّائَيْنِ مِنْهُ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ قِيَاسٌ، وَيُقَدَّرُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِعْلٌ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ، أَيْ: أَتُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِكُمْ، أَوْ أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْرُدَهُمْ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَنْصُرُهُمْ وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ؟.{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا}، وَلِهَذَا لَمْ يُكَرِّرِ النِّدَاءَ فِيهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الَّتِي نَفَاهَا نُوحٌ عليه السلام عَنْ نَفْسِهِ، هِيَ الَّتِي كَانَ يَظُنُّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ ثُبُوتَهَا لَازِمٌ لِمَنْ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا مِنَ اللهِ تَعَالَى إِنْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَإِلَّا كَانَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ نَفْيُهَا مُتَضَمِّنًا لِرَدِّ شُبْهَةِ حُجَّتِهِمُ الثَّالِثَةِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى خَاتَمَ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم بِنَفْيِهَا عَنْ نَفْسِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 50) وَنَخْتَصِرُ فِي تَفْسِيرِهَا هُنَا لِتَفْصِيلِهِ هُنَالِكَ.أَمَّا خَزَائِنُ اللهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ مِنْهَا أَنْوَاعُ رِزْقِهِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا عِبَادُهُ لِلْإِنْفَاقِ مِنْهَا كَمَا قَالَ: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} (17: 100) وَالْمَعْنَى: لَا أَقُولُ لَكُمْ بِادِّعَائِي لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِنَّ عِنْدِي خَزَائِنَ رِزْقِ اللهِ تَعَالَى أَتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ وَسَائِلِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِسَائِرِ النَّاسِ، بِحَيْثُ أُنْفِقَ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَنِي بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ أَنَا وَغَيْرِي مِنَ الْبَشَرِ فِي كَسْبِهَا سَوَاءٌ، إِذْ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ وَلَا مِنْ خَصَائِصِهَا وَوَظَائِفِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاتَّبَعَ النَّاسُ الرُّسُلَ لِأَجْلِهَا، لَا لِمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَأْهِيلِهَا لِلِقَائِهِ تَعَالَى وَمَثُوبَتِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْغَيْبِ، فَالْمُرَادُ بِهِ امْتِيَازُ النَّبِيِّ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ بِعِلْمِ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمُ الْكَسْبِيُّ مِنْ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَضَارِّهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَكَسْبِهِمْ، فَيُخْبِرُ بِهَا أَتْبَاعَهُ لِيَفْضُلُوا غَيْرَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ أَنْ يَقُولَ لِقَوْمِهِ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضُرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (7: 188).وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ نَفْيَ ادِّعَائِهِ الْغَيْبَ يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي أَتْبَاعِهِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، فَهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ، وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ ظَنًّا، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُعْطَ عِلْمَ الْغَيْبِ فَيَحْكُمَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّاهِرِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ السَّرَائِرَ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ نَفَاهُمَا كِتَابُ اللهِ عَنْ رُسُلِهِ يُثْبِتُهُمَا مُبْتَدِعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ لِمَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ وَالْقِدِّيِّسِينَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا مِرَارًا.وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ مَلَكًا فَهُوَ دَاحِضٌ لِشُبْهَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ اللهِ إِلَى الْبَشَرِ يَجِبُ أَنْ يَفْضُلَهُمْ وَيَمْتَازَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَنْ لابد أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ، يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ وَيَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُفَصَّلَةٌ وَمُكَرَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَبَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّامِنِ جُمْلَةَ مَا جَاءَ فِيهَا مَعَ شَوَاهِدِهِ مِنْ غَيْرِهَا فِي ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ).{وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} الِازْدِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الزِّرَايَةِ، يُقَالُ: زَرَى عَلَى فُلَانٍ يَزْرِي زَرِيَّةً وَزِرَايَةً (بِالْكَسْرِ) إِذَا عَابَهُ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَزْرَى بِهِ إِزْرَاءً تَهَاوَنَ بِهِ، أَيْ: وَلَا أَقُولُ فِي شَأْنِ الَّذِينَ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ الِاسْتِصْغَارِ وَالِاحْتِقَارِ فَتَزْدَرِيهِمْ أَعْيُنُكُمْ لِفَقْرِهِمْ وَرَثَاثَتِهِمْ: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا} كَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا وَعَدَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهُدَى مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ مَا حَكَى الله عَنْ كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} (46: 11) وَغَيْرُ هَذَا مِمَّا فِي مَعْنَاهُ.{اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} مِمَّا آتَاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقِ سَرِيرَةٍ، خِلَافًا لِمَا زَعَمْتُمْ مِنَ اتِّبَاعِي بَادِيَ الرَّأْيِ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا عِلْمٍ {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ إِنِّي إِذَا قُلْتُ ذَلِكَ فِيهِمْ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، إِذْ أَكُونُ ظَالِمًا لِنَفْسِي بِالتَّقَوُّلِ عَلَى اللهِ غَيْرَ مَا أَعْلَمُهُ عَنْهُ مِنْ وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَظَالِمًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ بِهَضْمِ حَقِّهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنِّي إِذَا قُلْتُ شَيْئًا مِمَّا نَفَيْتُهُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، بِأَنِ ادَّعَيْتُ أَنِّي أَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ رِزْقِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، أَوْ أَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَخْ. لَمِنْ زُمْرَةِ الظَّالِمِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ، لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعْتَصِمِينَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لِاجْتِنَابِ مَا ذُكِرَ تَعْرِيضٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَبِهَذَا تَمَّتْ حُجَّتُهُ عليه السلام عَلَيْهِمْ وَدَحْضُهُ لِجَمِيعِ شُبُهَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا قَوْلَ الْمُعْتَرِفِ بِالْعَجْزِ، الْمُنْتَهِي بِهِ عَجْزُهُ إِلَى حَدِّ الْيَأْسِ:{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}قَالَ الرَّاغِبُ: الْجِدَالُ: الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَدَلْتُ الْحَبْلَ إِذَا أَحْكَمْتُ فَتْلَهُ، وَمِنْهُ الْجَدِيلُ {أَيِ الْحَبْلُ الْمَفْتُولُ} وَجَدَلْتُ الْبِنَاءَ أَحْكَمْتُهُ. وَدِرْعٌ مَجْدُولَةٌ، وَالْأَجْدَلُ الصَّقْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنْيَةِ، وَالْمِجْدَلُ {كَمِنْبَرٍ} الْقَصْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنَاءِ، وَمِنْهُ الْجِدَالُ، فَكَأَنَّ الْمُتَجَادِلَيْنِ يَفْتِلُ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ عَلَى رَأْيِهِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِي الْجِدَالِ الصِّرَاعُ وَإِسْقَاطُ الْإِنْسَانِ صَاحِبَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ وَهِيَ {بِالْفَتْحِ} الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ .اهـ.وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: جَدَلَ الرَّجُلُ جَدَلًا فَهُوَ جَدِلٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ إِذَا اشْتَدَّتْ خُصُومَتُهُ، وَجَادَلَ مُجَادَلَةً إِذَا خَاصَمَ بِمَا يَشْغَلُ عَنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدِلَّةِ لِظُهُورِ أَرْجَحِهَا، وَهُوَ مَحْمُودٌ إِنْ كَانَ لِلْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِّ، وَإِلَّا فَمَذْمُومٌ اهـ، وَقَدْ وَرَدَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ فِي ذَمِّ الْجَدَلِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْهَا: {مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا.{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أَيْ قَدْ خَاصَمْتَنَا وَحَاجَجْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا وَاسْتَقْصَيْتَ فِيهِ فَلَمْ تَدَعْ لَنَا حُجَّةً إِلَّا دَحَضْتَهَا، حَتَّى مَلِلْنَا وَسَئِمْنَا وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقُولُهُ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} (71: 5 و6 إِلَخْ). وَقَوْلُهُ لَهُمْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ} (10: 71 إِلَخْ): {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} مِنْ عَذَابِ اللهِ الدُّنْيَوِيِّ الَّذِي تَخَافُهُ عَلَيْنَا، الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْلُهُ: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (26) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فِي دَعْوَاكَ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُنَا عَلَى عِصْيَانِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ.{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ} أَيْ إِنَّ هَذَا لِلَّهِ وَبِيَدِهِ لَا أَمْلِكُهُ أَنَا، وَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي يَأْتِيكُمْ بِهِ إِنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا شَكَّ فِيهِ {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} وَلَا فَائِتِينَ لَهُ إِنْ أَخَّرَهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، فَهُوَ مَتَى شَاءَ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَنَفِيُ الْإِعْجَازِ مُؤَكَّدٌ بِالْبَاءِ.{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} النُّصْحُ تَحَرِّي الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ قَوْلًا وَعَمَلًا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاصِحُ الْعَسَلِ، لِخَالِصِهِ الْمُصَفَّى مِنْهُ، وَنَصَحَ لَهُ أَفْصَحُ مِنْ نَصَحَهُ، وَالْإِغْوَاءُ الْإِيقَاعُ فِي الْغِنَى وَهُوَ الْفَسَادُ الْحِسِّيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ نُصْحِي لَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِي لَهُ فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ نَفْعُهُ عَلَى إِرَادَةِ اللهِ- تَعَالَى-، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِمَا عُرِفَ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ نَفْعَ النُّصْحِ لَهُ شَرْطَانِ أَوْ طَرَفَانِ، هُمَا الْفَاعِلُ لِلنُّصْحِ وَالْقَابِلُ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمُسْتَعِدُّ لِلرَّشَادِ، وَيَرْفُضُهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَيُّ وَالْفَسَادُ، بِمُقَارَفَةِ أَسْبَابِهِ مِنَ الْغُرُورِ بِالْغِنَى وَالْجَاهِ وَالْكِبْرِ، وَهُوَ غَمْطُ الْحَقِّ وَاحْتِقَارُ الْمُتَكَبِّرِ لِمَنْ يَزْدَرِي مِنَ النَّاسِ، وَتَعَصُّبُهُ لِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَحُبُّ الشَّهَوَاتِ الْمَالِنَةِ مِنْ طَاعَةِ اللهِ، فَمَعْنَى إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى لِإِغْوَائِهِمُ: اقْتِضَاءُ سُنَّتِهِ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْغَاوِينَ، لَا خَلْقُهُ لِلْغَوَايَةِ فِيهِمْ جُزَافًا أَنُفًا {بِضَمَّتَيْنِ} أَيِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَا كَسْبٍ مِنْهُمْ لِأَسْبَابِهِ، فَإِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ مُقَدَّرَةً بِأَقْدَارِهَا، تَرْتَبِطُ أَسْبَابُهَا بِمُسَبَّبَاتِهَا وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ يُغْوِيَكُمْ بِيُهْلِكَكُمْ بِعَذَابِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْغَيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا} (19: 59) وَحُكِيَ عَنْ طِيِّءٍ قَوْلُهُمْ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا، إِذَا أَصْبَحَ مَرِيضًا، وَأَصْلُ الْغَيِّ فَسَادُ الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ مِنْ كَثْرَةِ الْغِذَاءِ أَوْ سُوئِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا فَسَدَ جَوْفُهُ وَبَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الْفَسَادِ الْمَعْنَوِيِّ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِي الْجَهْلِ وَكُلِّ مَا يُنَافِي الرُّشْدِ، وَالْقَرَائِنُ هِيَ الَّتِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الْمَعَانِي عَلَى بَعْضٍ، وَمُوَافَقَةُ سُنَنِ اللهِ وَأَقْدَارِهِ شَرْطٌ فِي الْكُلِّ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَقُّ فِي اخْتِلَافِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى لِكُلٍّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مُطْلَقًا، وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.{هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ هُوَ مَالِكُ أُمُورِكُمْ وَمُدَبِّرُهَا وَمُسَيِّرُهَا عَلَى سُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي الدُّنْيَا، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ قَدَرٌ، وَلِكُلِّ قَدَرٍ أَجَلٌ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا لَا يَظْلِمُ أَحَدًا.{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي قِصَّةِ نُوحٍ حِكَايَةً لِقَوْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِ هَذِهِ الْقِصَصِ الَّذِي تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مُقْتَضَى لِاعْتِرَاضِهَا فِي وَسَطِهَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمَلِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَآيَتَيِ الْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي أَثْنَاءِ مَوْعِظَةِ لُقْمَانَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ سُورَتِهِ وَهُمَا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} (31: 14) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَبَعْدَهَا: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} (16 إِلَخْ) وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ (53- 55): {مِنْ سُورَةِ طه 20} قَالُوا: إِنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ فِي الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ مُوسَى عليه السلام وَفِرْعَوْنَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ. وَلِلْجُمَلِ وَالْآيَاتِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي الْقُرْآنِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ يَقْتَضِيهَا تَلْوِينُ الْخِطَابِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ، وَمَنْعِ السَّآمَةِ وَتَجْدِيدِ النَّشَاطِ فِي الِانْتِقَالِ، وَالتَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ؛ فَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ هُنَا أَنْ يَخْطُرَ فِي بَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ سَمَاعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ كَمَا زَعَمُوا، لِاسْتِغْرَابِهِمْ هَذَا السَّبْكَ فِي الْجِدَالِ وَالْقُوَّةَ فِي الِاحْتِجَاجِ، وَأَنْ يَصُدَّهُمْ هَذَا عَنِ اسْتِمَاعٍ، فَيَكُونَ إِيرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ تَجْدِيدًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلِنَشَاطِهِمْ، وَأَعْظِمْ بِوَقْعِهَا فِي قُلُوبِهِمْ إِذَا كَانَ هَذَا الْخَاطِرُ عَرَضَ لَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقِصَّةِ، فَمَا قَالَهُ مُقَاتِلٌ: لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ مِنْ وِجْهَةِ الْأُسْلُوبِ الْخَاصِّ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى تَعْبِيرِهَا عَنِ الْإِنْكَارِ بِـ {يَقُولُونَ} وَعَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِـ {قُلْ} الدَّالَّيْنِ عَلَى الْحَالِ، وَأَبْعَدُ عَنْ سِيَاقٍ حُكِيَ كُلُّهُ بِفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ {قَالُوا} {قَالَ} وَهُوَ سِيَاقُ قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ قَطْعِيًّا فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَرْجَحُ عِنْدِي وَعَلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمُقَابِلُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ لِجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أَيْ أَمْ يَقُولُ مُشْرِكُو مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَدِ افْتَرَى هَذَا الَّذِي يَحْكِيهِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ، أَوْ يَقُولُ نُوحٌ: إِنَّهُ افْتَرَى هَذَا الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أَيْ إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرْضًا فَهُوَ إِجْرَامٌ عَظِيمٌ عَلَيَّ إِثْمُهُ وَعِقَابُهُ مِنْ دُونِكُمْ؛ إِذِ الْإِجْرَامُ: الْفِعْلُ الْقَبِيحُ الضَّارُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ، مِنَ الْجُرْمِ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بَدُوِّ صَلَاحِهِ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ أَنَّ هَذَا إِجْرَامٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَمَا الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى اقْتِرَافِهِ {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} لِأَنَّ حُكْمَ اللهِ الْعَدْلَ أَنْ يَجْزِيَ كُلَّ امْرِئٍ بِعَمَلِهِ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَ{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286)} وَتَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا هُنَا وَهُوَ: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (10: 41) وَقَدْ أُثْبِتَ عَلَيْهِمُ الْإِجْرَامُ هُنَا؛ وَمِنْهُ- أَوْ أَشَدُّهُ- تَكْذِيبُهُ وَوَصْفُهُ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنَ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَسْتَخِفُّهُ السَّمْعُ، وَيَقْبَلُهُ الطَّبْعُ. اهـ.
|